شخصيات و مقالات

محمد رجب يكتب : سيد جلال من عربجي وبائع خبز لـ نائب في البرلمان .. هزم منافسه بقرش صاغ

بني المستشفي الاعرق في باب الشعرية .. الغي الدعارة وعلم الفحول السياسة .. ومازال يعيش في وجدان الفقراء

رأى عبد الناصر في فوزه انتصاراً لجيل ثورة يوليو
، كنت صغيراً عندما مررت ذات مرة في خمسينات القرن الماضي بميدان باب الشعرية ، وجدت زحاماً فأثير فضولي ، ودسست نفسي بين الواقفين ، إلى أن وصلت للمكان الذي كان يقف فيه رجل ذو ملامح قوية ، يتحدث بصوت واثق ، موجهاً حديثه للحشد الكبير الواقف أمامه .
أدركت أن الرجل يتحدث عن انتخابات البرلمان ، كان يحكي عن مشوار حياته ، وعن ظروف الفقر التي عاشها ، وهو ما يجعله واحداً منهم ، يشعر بمشاكلهم ، ويتعب لتعبهم ، متعهداً بأن يبذل كل جهده لتحسين أحوالهم .

– معاناة اهالي باب الشعرية

صدرت أصوات من الحشد الكبير د أن الحي ينقصه مستشفى ، وأن المعاناة كبيرة لأن أقرب مستشفى ، إما قصر العيني أو الدمرداش ، وهو ما يجعل أهالي باب الشعرية يعانون بشدة ، أنصت الرجل باهتمام ثم أطلق وعداً بأن يحقق حلم المنطقة ، التي يعيش فيها آلاف البشر ، وقال إنه سيبني المستشفى ، لكن على كل مواطن من باب الشعرية يؤيد انتخابه ، أن يضع في صندوق ” قرش صاغ واحد ” ، وسيقوم هو باستكمال المبلغ المطلوب لبناء المستشفى .

– والده ذبح النعجة لـ يكرم ضيفه

كل مواطن في باب الشعرية يعرف من هو سيد جلال جيلاني مبروك العدوي ، الصبي الذي عانى مرارة اليتم في سن مبكرة ، وذاق ما هو أكثر من المر في حياته الأولى ، ولد سيد جلال في أسرة فقيرة ، لكن أبوه كان يتمتع بصفة الكرم ، وبلغ من كرمه أن ذبح النعجة الوحيدة التي يملكها لضيوف أغراب ، واقترض الخبز من جار له كان من مشايخ القرية ، قام الرجل بواجب الضيافة على أكمل وجه ، لكنه توفي وترك ابنه سيد في عمر خمس سنوات ، وهو الذي فقد أمه بعد ولادته بشهور قليلة ، عاش سيد سنوات طفولته يعاني عذاب اليتم ، وكفله خاله الذي ألحقه بالكُتاب لكى يحفظ القرآن والقراءة والكتابة والحساب ، لكن لم يكمل سيد تعليمه لأن ظروف حياته الصعبة اضطرته للرحيل مع قريب له إلى القاهرة ، سعياً وراء لقمة العيش ، وهو الذي لا يملك شيئا في بلدته بني عدي مركز منفلوط بمحافظة أسيوط .

– عمل فراشاً وعربجياً وعاملاً وبائعاً للخبز

عمل سيد جلال في كل حرفة أو مهنة تخطر على بال إنسان ، اشتغل حمالاً وبائعاً وعربجياً وعاملاً في مخبز ، وبائعاً للخبز على دراجة ، كان يجري بها في شوارع القاهرة كالبهلوان ، وكان يفخر خلال حديثه في حملته الانتخابية بكل مهنة عمل بها ، واحتفظ في جيبه برخصة قيادة العربة الكارو ، وكان يخرجها فخورا بها أمام الحشود ، كان سيد جلال مقبلاً على الحياة ، لديه تصميم على مواجهتها والانتصار على مشاكلها وعوائقها ، كان يملك رؤية وبصيرة تجعله يحيا في سلام داخلي في انتظار الفرج .

وجاء الفرج بالفعل عندما رحل إلى بورسعيد للعمل في شركة ملاحة يونانية ، عمل في وظيفة فراش وكانت هذه المهنة البسيطة عنوان الفرج و” وش الخير ” ، اعتبر سيد جلال وظيفته الجديدة بداية الحياة التي طالما انتظرها ، وانطلق بكل طاقته يعمل في عدة اتجاهات غير مكتف بوظيفته الأصلية ، فحرص على تعلم اللغات من الخواجات ، فأجاد عدداً منها ، وتحدث اليونانية والإيطالية والفرنسية .

– اليونانيون ساعدوه حتي اصبح اكبر رجل اعمال

ولأنه جاد في عمله ، وأمين في تعاملاته ، وكفء كذلك ، منحه اليونانيون أصحاب شركة الملاحة ثقته الكبيرة ، وفتحوا له أبواب التعامل الواسع مع عملاء الشركة وغيرهم ، فاستطاع سيد جلال أن يبني قاعدته المالية الأولى والأساسية ، التي انطلق منها بعد ذلك ليكون من كبار رجال الأعمال ، بعد فترة استقل سيد جلال بتجارته ، وأسس شركة للتصدير والاستيراد ، فصار من كبار المستوردين والمصدرين ، وكان للشركة فرعاً في باب الشعرية ، والذي كان باباً للعلاقات مع أهالي الحي العريق .

– من العتبة حتي باب الشعرية

بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 بسنوات قليلة ، وبالتحديد في عام 1957 ، أجريت أول انتخابات في عهد الثورة لتشكيل البرلمان الجديد ، والذي أطلق عليه مجلس الأمة ، وترشح سيد جلال لخوض الانتخابات ، وخلال هذه الانتخابات عرفت شخصياً الرجل ، لكن ليس عن قرب ، فقد كنت طفلاً من سكان حي الجمالية ، ولكي أذهب إلى العتبة كان لابد من المرور بميدان باب الشعرية ، ولو كنت راغباً في الذهاب إلى العباسية لكان لابد من المرور بميدان باب الشعرية ، وفي اليوم الذي ذكرته مسبقاً كنت أمر فوجدت الرجل والحشد الكبير حوله ، فانحزت له وصرت من دعاته ، وصرت وأقراني الأطفال نحمل صوره ونجوب المنطقة ، هاتفين له وداعين له بالفوز .

– هزم الرأسمالية بقرش صاغ

كان المنافس لسيد جلال أحد كبار رجال الأعمال واسمه محمد إبراهيم ، كان من أكبر تجار الشاي ويبيع شاي مشهور وقتها اسمه شاي ” زوزو ” ، وللرجل عمارة من أشهر عمارات باب الشعرية _ موجودة حتى الآن _ وهي عمارة تجارية ، وكان فكره في هذه المسألة سباقاً ، فلم نكن في مصر قد عرفنا العمارات التجارية التى تقسم مساحاتها كمحلات ، كان محمد إبراهيم يخوض الانتخابات بطريقة الرأسماليين المعتادة ، فهو يمنح من يعتقد أنه سيصوت له جنيهاً كاملاً ، وكان هذا المبلغ مذهلاً في الخمسينات ، بشرط أن يتم قطع الورقة المالية نصفين ، يعطي أحدها للناخب والآخر يحتفظ به رجال إبراهيم لحين التأكد من منح الصوت ، على الجانب الآخر رفض جلال هذا الأسلوب ، وهو الذي كان قادراً على منافسة صاحب زوزو بحكم ثرائه ، بل فضل أن يقوم كل من يؤيده بوضع قرش صاغ في الصندوق المخصص لذلك ، حتى يتم بناء المستشفى الذي حلم به أبناء باب الشعرية .

– عندما هتفنا : خدنا فلوسه وكسرنا فانوسه

كان الزعيم جمال عبد الناصر يتابع تفاصيل المعركة الانتخابية ، حيث كان يراها صراعاً بين القديم والجديد ، بين الرأسمالية والاعتصاميين من أبناء الطبقة الجديدة ، التي بنت ثروتها من عرقها ، ولم ترث أرضاً أو إقطاعاً ، وبعد أن فاز سيد جلال تحدث عبد الناصر في إحدى خطبه عن قوة الطبقة الجديدة وقدرتها على ضرب الرأسمالية المستغلة ، التي أرادت أن تشتري إرادة الناخبين وأصواتهم ، كان الفانوس الرمز الانتخابي لمحمد إبراهيم المنافس لسيد جلال ، لذلك وبعد فوز سيد جلال كنا نسير في الشوارع في زمرة ونهتف : ” خدنا فلوسه .. وكسرنا فانوسه ” .

– سياسي شريف صنع تاريخه بنزاهة

بنى سيد جلال المستشفى كما وعد ، وظل يعيش في وجدان كل مواطن في باب الشعرية حتى الآن ، وكان بداية مدرسة السياسة الجديدة في دائرة باب الشعرية ، تتلمذ عليه فحولها بعد ذلك ، وهو يعتبر نموذجاً أمام الشباب لكل سياسي شريف صنع تاريخه بنزاهة ، أعطى ولم يستغل موقعه ، وقد ظللت أتابع مسيرة الرجل بعد أن صرت في مرحلة عمرية أكثر إدراكاً للحياة السياسية ، وأشهد أنه كان عطاءاً في كل مجال ، وفي داخل المجلس ، كان وراء مطلب إلغاء الدعارة في مصر ، ووافق مجلس الأمة ، وكان الرئيس جمال عبد الناصر داعماً لمواقفه ولموقف المجلس .

كاتب المقال : المستشار السياسي لرئيس حزب الحركة الوطنية المصرية وزعيم الأغلبية الاسبق في مجلس الشوري

زر الذهاب إلى الأعلى