شخصيات و مقالات

محمد رجب يكتب : في مثل هذا اليوم هتفت الجماهير ” أرفض أرفض يا زكريا عبد الناصر ميه الميه “

الرئيس خاطب الأمة وشعره يشتعل شيباً .. وجهه يحمل تجاعيد كهلاً تجاوز السبعين .. ورأسه التي لم تنحني أبداً تميل لـ الأمام خجلاً

منذ 54 عاماً وفي مقر الأمانة العامة لمنظمة الشباب ، كنت بمكتبي الكائن في 11 حسن صبري بالزمالك ، وكنت مستمراً بالعمل طول اليوم ، وكنا في أعقاب نكسة 1967 ، وكان قد تحدد ان جمال عبدالناصر سوف يتحدث إلي الأمة في السادسة مساء ، فقررت ان أبقي بمكتبي لأستمع لـ خطاب الرئيس ، وأنا وغيري يلفنا الألم ويعتصرنا الحزن ، وعلامات اليأس تحيط بنا من كل جانب ، وتحدث بعضنا إلي بعضا : ” عبدالناصر حيقول ايه بعد هذه النكسة التي حلت بنا ، أليس هو ومن معه المسؤولين عن تلك النكسة وهم سببها ” .

– تحدث الرئيس الي الأمة بـ حزن وأسي

وانتظرنا متلهفين امام شاشات التليفزيون ، لنعرف ماذا سيقول في أعقاب تلك المصيبة التي حلت بمصر ؟! ، وإذا بـ عبد الناصر يخرج علينا في صورة لم يسبق لنا ان شاهدناه عليها ، هذا القائد الذي لم يكن قد أكمل التاسعة والأربعين من عمره ، شعره قد أشتعل شيباً ، ووجهه يحمل تجاعيد كهل قد جاوز السبعين ، ورأسه الذي لم يسبق ان أنحني أبداً قد مال إلي الأمام خجلاً ، وكأنه لايريد ان يواجه الناس ، وأخذ في شرح أبعاد النكسة وملابسات الهزيمة ، بـ ألم أحسب أننا لم نشهده من قبل في جمال عبدالناصر ، أما نحن فكنا جالسون نرقب ونتعجل ، ماذا سيقول بعد هذا العرض ؟! ، وإذا به يتحدث الي الأمة بـ حزن وأسي قائلاً : … أنني أتحمل المسؤليه كلها … ثم أردف وقال : لقد قررت ان أتنحي تماماً ونهائياً عن أي منصب رسمي ، وأي دور سياسي ، وأن أعود إلي صفوف الجماهير أؤدي واجبي معها كأي مواطن أخر ، وقد كلفت أخي زكريا محيي الدين بتولي مهام ومسؤوليات رئيس الجمهورية ، وسوف أضع نفسي للمساءلة حول أبعاد هذه النكسة متحملاً كل تبعاتها .

– من الزمالك إلي بولاق سيراً علي الأقدام

وبعد إنتهاء الرئيس من خطابه بلحظات ، إذا بالتليفونات تنهال عليَّ وأنا في غرفة العمليات المركزية من جميع المحافظات ، تعلن جميعها رفض التنحي ، وان هناك آلاف مؤلفة من الجماهير تتجمع علي محطات ووسائل النقل المختلفة ، كلُُ يبحث عن وسيلة نقل للذهاب إلي القاهرة ليجيئ ليعبر عن رفضه لقرار التنحي ، ولم يكن أمامي أي إمكانية للتصرف ، فكنت أقول لكل المتصلين كل واحد يتصرف حسبما يري ، وان كنت أنصح بعدم الحضور للقاهرة ، ولم تكن هناك اي قيادة موجودة للرجوع اليها ، وقررت أن أخرج إلي الشارع ، فحاولت ان أنتقل من الزمالك إلي بولاق من علي كوبري ابوالعلا سيراً علي أقدام ، لقد أصبحت القاهرة قي لحظة واحدة كتلة من البشر ، وأشتعلت المسيرات والمظاهرات ، وخرجت الهتافات التلقائية : أرفض أرفض يازكريا عبدالناصر ميه الميه ” ، وهتافات أخري : متقوليش متقوليش عبدالناصر غيره مفيش ، وهتافات ثالثة : أنور أنور ياسادات عبدالناصر غيره ماينفعناش ، وغيرها من الهتافات والشعارات التي صنعتها الجماهير ، وكانت هذه هي اللحظة الفارقة ، التي اعلنت بها الجماهير تمسكها بعبدالناصر ، وهي اللحظة التي صنعت واقع جديداً ، والتي أستعاد من خلالها جمال عبدالناصر ثقته من دعم الجماهير .

– إعاد بناء القوات المسلحة

وعلي هذا الأساس قرر عبدالناصر التراجع عن التنحي ، وانه سوف يبقي حتي إزالة أثار العدوان ، وأعتبر ان معركة إزالة أثار العدوان يجب أن تُسخر لها كل الإمكانيات والقدرات ، وكان الشعار وقتها : ليس هناك صوت أعلي من صوت المعركة ، ولا نداء أقدس من ندائها ، وأخذ علي عاتقه هذه المهمة التاريخية وأعاد تنظيم القوات المسلحة ، ووضع علي رأسها قيادة وطنية محترفة ، ونستطيع القول بأن جمال عبدالناصر إذا لم يكن القدر قد أتاح له العيش حتي يري إزالة أثار العدوان بنفسه ، إلا أن التاريخ يؤكد أن جمال عبد الناصر قد أنجز مهمة إعاد بناء القوات المسلحة ، التي أزالت أثار العدوان ، وحققت نصر اكتوبر العظيم ، والذي كان لوقفة الشعب المصري في يوم ٩ يونيه الفضل ، الأعظم .
تحية لصاحب قرار الحرب الرئيس أنور السادات ، الذي قاد مصر لتحقيق النصر ، وإزالة أثار العدوان .

كاتب المقال المستشار السياسي لرئيس حزب الحركة الوطنية المصرية وزعيم الأغلبية السابق بمجلس الشوري

زر الذهاب إلى الأعلى